كويت نيوز :
وفجأة، تحول قطار الثورة عن مساره، وتحول ثوارنا إلى بائعي يانصيب فوق محطات التاريخ. وتحولت الحناجر اللاهبة إلى أوراق صفراء كأوراق العائدين من العراق ذات حرب. يكفي أن تنظر في أعينهم الشاخصة نحوك تستجديك توقيعا لا يقدم ولا يؤخر في مسار النكسة لتدرك ما حل بثورتنا من ثبور، وما أصاب عقولنا من شطط. هكذا إذن تضع الثورات أثقالها وتعلن على الملأ إفلاسها ممهورة بتوقيع آلاف السحرة الذين زينوا للثوار الجلوس حول حائط الأمل يتسولون حريتهم.
لا أكاد أصدق عيني وأنا أرى مشاهير الإعلام وأقطاب السياسة وقد قرروا أن يعلنوا دعمهم بحروف ملفوفة مشتبكة لحركة تمرد باهتة لا تسمن ولا تغني من قهر، وكأن الشعر البارز من مقدمات صدورهم قادر على نفخ الروح في الأوراق وبعث مارد الثورة من قمقمه القديم. أيها البائسون التعساء! يا من تجرون قطار الثورة من ذيله وتدعون أنكم تدفعونه نحو مسار جديد، وفروا بالله أحباركم ولا تعترضوا طريق المارة الذين يهرولون نحو يأسهم المعتاد وحزنهم القديم، فقد كفرت بكم الطرقات والميادين والمنصات.
اخرجوا على الملإ في شجاعة ساموراي مهزوم وفي حناجركم بقايا صهيل، واعترفوا أنكم مهزومون حتى النخاع، بائسون حد المهانة، وأن الثورة تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد أن ضلت طريقها في شعاب الأنانية والأنانية المضادة. لا تؤملوا الشعب المقهور في استعادة بصره وبصيرته، فزيت قناديلكم اليوم أشبه بزيت قنديل أم هاشم يغذي الأمل في نفوس البسطاء، لكنه لا يكحل أعينهم بشعاع حرية أو كرامة.
اخرجوا أيها الملتحفون بالأوراق الذابلة على شعبكم البائس، وأعلنوا انتكاسة ثورتكم، فملايين التوقيعات لن تغطي عري هزيمتكم، لكنها تؤجل فاتورة الحزن حتى حين. لا تخيبوا رجاء من بصموا لكم واستأمنوكم على حروفهم الساقطة من أياديهم الراعشة، وأعلنوا انتهاء موسم الحصاد. أخبروهم أن دماء الشهداء لم تلقح أرض الثورة بجنين الحرية، لأن أرضنا البور لم تنتج إلا قهرا وقمعا وخيبات كثيرة.
نعرف أن جنين الثورة مات، وأن ألاف التصريحات لن تغني من المرارة شيئا. ونعرف أننا عائدون إلى نيرنا القديم وساقية أحزاننا القديمة، لندور في فلك بؤسنا القديم كثيران معصوبة الأعين لا ترى أبعد من العصابة الملفوفة فوق جفنيها بإحكام.
لن نتمرد، وأعلنها لن نتمرد، لأن الذين أرادوا أن يحملونا حتى آخر حدود اليأس نسوا أن رائحة الدماء تفتح أكمام الذاكرة في رؤوسنا المستديرة. وإن كان الموقعون على صك المهانة قد تخلوا عن أرجلهم التي حملتهم إلى الميادين ذات نفرة، فإن دبيب أقدامنا لا يزال حيا في تجاويف أذاننا. لن نوقع على تمرد مزيف يحمل ثورتنا البيضاء إلى مثواها الأخير. سنراهن أيها المختبئون خلف أحرفهم الأولى على ذاكرتنا وما تبقى لنا من وعي وإرادة.
نعرف أن شجرة الثورة قد ألقت أوراقها، وخلعت زينتها في مهب الريح بعد أن سقط فينا من يستحق الحياة. لكننا على يقين أنها شجرة أصلها ثابتة وفرعها في السماء، وأنها قادرة على تجديد أوراقها متى شاءت وأنها ستنبت يوما تمردا أمضى عزيمة وأكثر كلفة. وسيعلم الذين تمردت حروفهم ولم تتمرد قلوبهم أي منقلب ينقلبون.
الكاتب :
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات