في نهاية يناير الماضي، أعلن الملياردير إيلون ماسك أن شركته نيورالينك قد نفذت أول عملية زرع للغرسة الدماغية، والتي من المفترض أن تسمح للإنسان بالتحكم بالكمبيوتر عن طريق أفكاره وحدها.
وكانت نيورالينك قد حصلت في شهر مايو الماضي، على الضوء الأخضر من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لتطوير غرستها (تُسمّى أيضاً واجهة الدماغ-الحاسوب) التي تُعقد عليها آمال كبيرة في مساعدة المصابين بأمراض معيّنة مثل الشلل، وفي مرحلة لاحقة المكفوفين، وعلاج الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب.
وإن كانت غرسة نيورالينك لا تزال محصورة حالياً في دورٍ علاجي، فإن ماسك يقول إنه يهدف من خلال هذه التكنولوجيا إلى احتواء “الخطر على حضارتنا” الذي يمثله الذكاء الاصطناعي.
كما تندرج هذه الغرسة في إطار مشروع أكبر يعرف بـ”ما بعد الإنسانية” (Transhumanism) للدمج بين البشر والذكاء الاصطناعي بهدف “منع هذا الأخير من التفوق على الإنسان”، بحسب ماسك.
كيف تعمل الغرسة الدماغية؟
تُعدّ الغرسة الدماغية التي أطلقتها شركة نيورالينك تقنية تهدف إلى تطوير واستخدام أجهزة طبّية تُزرع في الدماغ بهدف توصيله بالحواسيب والأجهزة الأخرى بواسطة الذكاء الصناعي.
وإذا أردنا تبسيط الأمر على نحو كبير: فلنتخيل أن غرسة نيورالينك تشبه جهاز كمبيوتر صغير للغاية يوضع داخل الدماغ. هذا الكمبيوتر الذي يتخذ شكل رقاقة يحتوي على أسلاك خاصة تسمّى الأقطاب الكهربائية (electrodes) التي يمكنها “التحدّث” إلى خلايا الدماغ وإرسال الإشارات واستقبالها. ويمكن أن تساعد رقاقة الدماغ الأشخاص من خلال القيام بأشياء مثل التحكّم في الأجهزة بواسطة أفكارهم فقط. وهي لذلك مناسبة جداً لمرضى الشلل على سبيل المثال.
وبالفعل فإن أول شخص خضع لزراعة الغرسة في يناير الماضي، هو نولاند أربو (29 عاماً) الذي أصيب بالشلل الرباعي جراء حادثة غطس. وقد ظهر أربو قبل أسابيع في مقطع مصوّر يلعب الشطرنج على اللابتوب الخاص به، إذ استطاع أن يحرّك مؤشر الحاسوب بواسطة أفكاره فقط بفضل الغرسة الدماغية.
وفي تغريدة له بعد نجاح هذه العملية، قال ماسك على منصة إكس التي يملكها (تويتر سابقاً) إن النتائج الرئيسية أظهرت “طفرات في الخلايا العصبية” لدى المريض. والطفرات هنا تشير إلى نشاط الخلايا العصبية التي تستخدم الإشارات الكهربائية والكيميائية لإرسال المعلومات حول الدماغ والجسم.
هل سنصبح أشخاصاً نصف آليين؟
السؤال الكبير الذي تطرحه هذه التجربة – وغيرها من مشاريع إيلون ماسك – هو ما إذا كان الإنسان قد بدأ بالفعل تحقيق افكار بعض قصص الخيال العلمي، عبر تحوّله إلى إنسان نصف آلي أو ما يعرف بالـ”سايبورغ”.
يرى ماسك في مشروع الغرسة الدماغية طريقة لقلب موازين القوى بين الإنسان والآلة، وهي الموازين التي طالما استتبعت تحذيرات من أن هذه العلاقة، التي تتأرجح بين التحالف تارةً والصراع طوراً، قد تتحوّل في يومٍ ما إلى علاقة هيمنة تامة، يخسر فيها الإنسان سيادته على التقنية.
يريد ماسك والمؤمنون بمشروعه قلب الطاولة في هذه العلاقة الاستلابية الطويلة، ووضع حد لهيمنة الآلة على الإنسان عبر العمل على إرساء هيمنة “الإنسان المعزّز” على الآلة.
وهو في هذا السياق قد رفع دعوى قضائية قبل شهر ضد شركة “أوبن إيه آي” – الأشهر في مجال الذكاء الاصطناعي والتي أنتجت تطبيق “تشات جي بي تي”. وجاءت الدعوى ضد الشركة ورئيسها التنفيذي سام ألتمان وآخرين، بسبب أن هؤلاء “تخلّوا عن المهمة التأسيسية للشركة أي تطوير الذكاء الاصطناعي لصالح البشرية”، برأيه.
وكان ماسك عند تأسيسه نيورالينك عام 2017، قد قال إنه “بغضّ النظر عن مدى تقدم الذكاء الاصطناعي، فإننا سنظلّ متأخرين عنه كثيراً… سنتقلّص إلى حالة حيوان أليف أو قطة. وأنا لا أريد أن أكون قطة”. منذ ذلك الحين، يعمل ماسك بواسطة نيورالينك على جعل الإنسان قادراً على منافسة الذكاء الاصطناعي، من خلال امتلاكه خصائص هذا الذكاء.
وفيما يحذر بعض خبراء التكنولوجيا من أن “السايبورغ” (إنسان نصف آلي) سيكون واقعاً منتشراً خلال عشرين سنة من الآن، هناك وجهة نظر أخرى في هذا السياق تقلّل من أحقية المخاوف الذي تثيرها هذه الفكرة.
في كتابه “لقد كنا دوماً أشخاصاً نصف آليين: البيانات الرقمية وتقنيات الجينات وأخلاقيات ما بعد الإنسانية” (2021)، يقول الفليسوف الألماني ستيفان لورينز سورغنر، إننا يجب أن ندرك أنه منذ بدايات الإنسان العاقل (الهوموسابيان)، كنّا دوماً “سايبورغ” أي “كائناتٍ موجهة”، وذلك من خلال سلسلة من “الترقيات” التي اكتسبها الإنسان وسمحت له بالتطور، مثل اكتساب اللغة والكتابة والتعليم وصولاً إلى التطعيم ضدّ الأمراض خصوصاً في ما بعد. يعتقد سورغنر إن غرسة نيورالينك الداخلية ستكون ببساطة الخطوة التالية في هذا المسار ليس إلا.
ويرى أنه بالنظر إلى التاريخ الطويل من “التعديل البشري” والفائدة التي حققها ذلك، فإن الفكرة التي تصوّر “الطبيعة بكونها نقيّة وجيّدة والتي ترفض التكنولوجيا لكونها مصطنعة وسيّئة، ليست معيبة فحسب، بل هي تعيق من دون داعٍ قدرتنا على الازدهار”.
وبالنظر إلى كيف استطاعت تقنيات التطعيم، والمضادات الحيوية، والتخدير تحسين حياة البشر، ينبغي لنا أن نأمل في أن تستمر التكنولوجيات الناشئة حديثاً في تخفيف معاناتنا، برأيه.
“بضعة سنتيمترات مكعبة داخل جمجمتك”
في روايته الشهيرة 1984 (1948)، يكتب الروائي البريطاني جورج أورويل على لسان شخصية وينستون: “لم يعد هناك شيء خاص بك باستثناء بضعة سنتيمترات مكعبة داخل جمجمتك”، للدلالة على حالة الفرد في ظلّ تغوّل سلطوية الحزب الحاكم.
اليوم، وفي عصر تحقيق مشاريع نيورالينك، يمكن القول إن حتى جملة وينستون الشهيرة أصبحت منتهية الصلاحية. إذ أنه، وعلى الرغم من تأكيد ماسك على ضرورة “قبول” الأفراد بوصول هذه التقنية لأفكارهم، يحذّر كثيرون من قدرة الغرسة الدماغية على تهديد الحرّية الفردية وزيادتها السيطرة السلطوية بطرق مختلفة.
أولاً، يثير هذا المشروع مخاوف بشأن الخصوصية، إذ بإمكان هذه التقنية الوصول إلى المعلومات الشخصية الحسّاسة والأفكار وحتى مشاعر الأفراد، ما يتيح إمكانية استخدام هذه البيانات للتلاعب أو التحكم بهم.
كما يثير مخاوف على استقلالية الأفراد وإرادتهم الحرّة، في وقتٍ يطرح فيه بالفعل التغلغل التكنولوجي وسطوة الخوارزميات تساؤلات حول حرية الأفراد وسيادتهم على رغباتهم وسلوكياتهم، ولكنها حتى الآن سطوة “خارجية” بخلاف ما يعدنا به مشروع إيلون ماسك الذي ينقل مخاطر التحكّم إلى داخل الأجساد.
وداعاً لـ”الحياة الداخلية”؟
في كتابه “هيغل في دماغٍ سلكي” (2020)، تطرّق الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك لمشروع نيورالينك، طارحاً عدداً من الأفكار حول نتائج “غرسة إيلون ماسك الدماغية” على الإنسان.
الفكرة الأولى هي أن هذا المشروع يهدّد الحرّية الفردية بشكل كبير. يقول ماسك مدافعاً عن النسخة الحالية من الغرسة الدماغية، إن الفرد “لن ينغمس تماماً في تدفق أفكار الآخرين: فهم يحافظون على مسافة دنيا من هذا التدفق، بحيث أنك حتى تسمح للآلة أو لفرد آخر (من خلالها) بتسجيل و/أو مشاركة أفكارك ومشاعرك، عليك أن توافق على ذلك بوضوح أولاً”.
كذلك، قال ماسك عام 2017: “لن يتمكن الناس من قراءة أفكارك، سيتعيّن عليك أن ترغب بذلك. إذا لم ترغب به فإنه لن يحدث. تماماً كما لو كنت لا تريد لفمك أن يتكلم، فهو لن يتكلم”.
لكن جيجك يتساءل: “كيف يعرف ماسك أن الفرد يحافظ على هذه المسافة الدنيا؟”.
ويشير إلى أن ماسك يقول إن دماغنا سيكون موصولاً ومرتبطاً بآلة لا “تقرأ أفكارنا” بالمعنى الدقيق للكلمة ولكنها “تقرأ” العمليات في دماغنا التي تمثل الارتباط العصبي لأفكارنا.
ويقول جيجك: “بالتالي، عندما أعتقد أنني لست على دراية بالعمليات العصبية في دماغي، كيف أعرف ما إذا كنت متصلاً أم لا؟ أليس من المعقول أكثر أن أخمن أنه عندما أكون متصلاً بواجهة الدماغ-الحاسوب، لن أكون مدركاً حتى متى تكون حياتي الداخلية شفافة للآخرين؟”.
ويسأل أيضاً في هذا السياق: “ألا تقدم هذه الغرسة نفسها كوسيلة مثالية للسيطرة (السياسية) على الحياة الداخلية للأفراد؟”.