عادة ما يقال لنا في مرحلة الطفولة إن العصي والأحجار قد تكسر عظامنا، لكن الكلمات لا يمكنها أن تؤذينا. لكن مع تقدمنا في السن واكتسابنا للكثير من الخبرات، ندرك أن هذه المقولة بعيدة كل البعد عن الحقيقة – فبينما قد يستغرق اندمال الجروح الجسدية أسابيع، فإن الأذى الناتج عن التعليقات السلبية قد يستمر مدى الحياة.
سواء كانت تلك انتقادات يوجهها لنا أحد مدرسينا، أو تعليقا يصدر في ذروة الانفعال خلال مشادة مع زميل أو حبيب، فإننا عادة ما نتذكر التوبيخ أفضل بكثير مما نتذكر التعليقات الإيجابية نتيجة لما يعرف بظاهرة “الانحياز للسلبية”.
بل إن عددا كبيرا من التأثيرات المعقدة يمكن شرحه من خلال هذا النوع من التحيز، والذي يعني أن المشاعر السلبية عادة ما تؤثر علينا بشكل أقوى بكثير من المشاعر الإيجابية. يتسبب ذلك في أننا نعير الاهتمام بشكل خاص للتهديدات ونبالغ في الأخطار، وفق البروفيسور روي باومايستر أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة كوينزلاند والمؤلف المشارك لكتاب: “قوة الأشياء السيئة وكيف يمكنك التغلب عليها” (The Power of Bad: and How to Overcome it).
التركيز على الجانب المظلم للعالم من حولنا قد يبدو وكأنه مشهد يبعث على الاكتئاب، ولكنه في واقع الأمر ساعدنا نحن البشر في التغلب على الكثير من المصاعب، من الكوارث الطبيعية إلى الأوبئة والحروب، من خلال جعلنا مهيئين بشكل أفضل للتعامل معها (رغم أن ثمة دليلا على أن التفاؤل أيضا من الممكن أن يساعدنا على حماية أنفسنا من التوتر الذي نتعرض له في أوقات الشدائد).
لقد تطور الدماغ البشري لحماية أجسادنا وإبقائنا على قيد الحياة، ولديه ثلاثة أنظمة تحذيرية تمكّنه من التعامل مع ما يجدّ من أخطار. فهناك جهاز العقد القاعدية العتيق الذي يتحكم فيما يعرف باستجابة “الكر أو الفر” (fight or flight)، والجهاز الحوفي الذي يُنتج المشاعر استجابة للتهديدات ومساعدتنا على فهم المخاطر، كما أن هناك الفص الجبهي الأكثر حداثة، والذي يمكننا من التفكير بشكل منطقي عند مواجهة المخاطر.
![Female doctor looking at MRI scanner monitor showing a human brain](https://c.files.bbci.co.uk/ED4B/production/_125674706_93498aef-db13-47d6-9e7c-59e971c3e397.jpg)
يقول البروفيسور باومايستر: “أجدادنا الذين كان لديهم ذلك التحيز (السلبي) كانوا أوفر حظا من غيرهم فيما يتعلق بالبقاء على قيد الحياة”. البشر مصممون على ترقب الأخطار. وفي عمر الثمانية أشهر، يلتفت الأطفال الرضع للنظر إلى صورة ثعبان بشكل أسرع وأكثر إلحاحا مقارنة بصورة ضفدع وديع. وعند بلوغهم سن الخامسة، يكونون قد تعلموا إعطاء الأولوية لوجه غاضب أو خائف مقارنة بوجه سعيد.
يقول باومايستر إن التركيز على المشكلات أولا قد يكون استراتيجية جيدة: “أولا، نتخلص من الأشياء السلبية ونحل المشكلات، مثلما نركز على وقف النزيف” عند الشروع في معالجة مصاب. ولكن رغم أن التركيز على السلبيات قد يمنحنا طوق النجاة في المواقف العصيبة، فإن التحيز للسلبية قد لا يكون بالشيء الجيد بصورة يومية.
يرى باومايستر أنه إلى أن نتعلم كيف نتفادى الآثار المبالغ فيها للسلبيات، فإنها تشوه رؤيتنا للعالم وكيفية استجابتنا له.
على سبيل المثال، غالبا ما تبدو الحياة قاتمة بين صفحات الجرائد – وعادة ما يُتهم الصحفيون بمطاردة الأخبار السيئة لأنها تسهم في زيادة توزيع الصحف وتجتذب المشاهدين.
ربما كان ذلك صحيحا جزئيا، ولكن الباحثين أشاروا إلى أن القراء ينجذبون بشكل فطري للروايات المأساوية وهناك احتمال أكبر أن يعيدوا قصّها على أشخاص آخرين، مقارنة بالقصص السعيدة. والشائعات التي تتناول الأخطار المحتملة – حتى ولو كان احتمال حدوثها ضئيلا – تنتشر بسرعة أكبر بين الناس مقارنة بالشائعات التي من الممكن أن تكون مفيدة.
في إحدى الدراسات، استخدم علماء بجامعة ماكغيل في كندا تقنية لمراقبة العيون لمعرفة أي المقالات الإخبارية ستحظى بالقدر الأكبر من انتباه المتطوعين. وجد العلماء أن الناس عادة ما يختارون القصص التي تتناول الفساد والإخفاقات والنفاق وغير ذلك من الأخبار السيئة، ويفضلونها على القصص الإيجابية أو المحايدة.
الأشخاص المهتمون بالأحداث الجارية والسياسة ازداد لديهم احتمال اختيار الأنباء السيئة، ولكن عندما سُئل المشاركون في الدراسة، قالوا إنهم يفضلون الأخبار السارة.
![Los Angeles Galaxy fans, hostile to David Beckham, protest against the British star before a friendly game in 2009](https://c.files.bbci.co.uk/02EB/production/_125674700_11091e59-12c4-42cb-98ae-f5b51a32bd0d.jpg)
وفي حين أن القلق بشأن موقف افتراضي لكن مروع قد يصيبنا بالخوف، فإن تجربة سيئة صغيرة واحدة فقط قد يكون لها بالغ الأثر على يومنا بأكمله.
عكف البروفيسور راندي لارسن أستاذ العلوم النفسية والدماغية بجامعة واشنطن في سان لوي على مراجعة الأدلة التي تشير إلى أن المشاعر السلبية تستمر لفترة أطول من المشاعر الإيجابية. وجد أننا نميل إلى قضاء وقت أطول في التفكير في الأنباء السيئة مقارنة بالأنباء السارة، وهو ما قد يفسر لماذا تظل اللحظات المحرجة أو الانتقادات تطاردنا لسنوات طوال.
أحيانا يكون التفكير في تعليقات مؤلمة صدرت عن حبيب أو فرد من أفراد الأسرة شيئا صعبا على النفس. يقول باومايستر: “أظن أن التعليقات الصادرة عن أشخاص نحبهم ونثق بهم يكون لها تأثير أكبر من تلك التي تصدر عن غرباء”. يرجع هذا جزئيا إلى أننا لدينا توقعات بشأن الطريقة التي ينبغي أن يتصرف بها أصدقاؤنا أو أفراد أسرتنا تجاهنا.
في بعض الحالات، قد تؤدي التعليقات السئية الصادرة عن أشخاص نحبهم إلى جراح نفسية تدوم طويلا، وإلى استياء قد يؤدي إلى انهيار العلاقات.
توصل باحثون بجامعة كنتاكي بالولايات المتحدة إلى أنه من النادر إنقاذ العلاقات المنهارة عندما يتجاهل الشركاء المشكلات التي تعترض طريق تلك العلاقات لكي يظلوا “أوفياء بشكل سلبي”. وقال هؤلاء الباحثون: “ليست الأشياء الجيدة البناءة التي يفعلها الشركاء أو لا يفعلونها لبعضهم بعضا هي ما تحدد نجاح العلاقة من عدمه في أغلب الأحيان، بل إنها الأشياء المدمرة التي يفعلونها أو لا يفعلونها عند الاستجابة للمشكلات”.
دراسة أخرى تتبعت أزواجا على مدى أكثر من 10 سنوات أظهرت أن مدى تعبيرهم عن المشاعر السلبية تجاه شركائهم في الحياة خلال العامين الأولين من الزواج تنبأ بما إذا كان سيحدث انفصال، حيث كانت مستويات السلبية أعلى بين الأزواج الذين انتهت علاقتهم بالطلاق.
ما نقرأه ونشاهده في الأخبار من شأنه أن يعظم من قدر مخاوفنا. على سبيل المثال، مخاوفنا من الإرهاب مرتفعة للغاية رغم أن عدد الأشخاص الذين قتلتهم الجماعات الإرهابية في الأعوام العشرين الماضية في الولايات المتحدة مثلا أقل من عدد المواطنين الأمريكيين الذين لقوا حتفهم في أحواض الاستحمام في نفس الفترة، كما يشرح البروفيسور باومايستار في كتابه.
اترك تعليقاً