كويت نيوز : مرت إيطاليا بمرحلة قلقة واكبت الحرب العالمية الثانية وامتدت حتى أفول القرن العشرين. وفي تلك الآونة، دأب الإيطاليون على الاحتفال بتنصيب رؤساء وزراء جدد أكثر من احتفالهم بأعياد رأس السنة لكثرة ما شهدته البلاد من توترات سياسية أدت إلى تغيير الطواقم الوزارية بسرعة مدهشة. كان السخط سمة المرحلة، وبدلا من الدعوة إلى الثورة على أنماط التفكير السائدة، طالب الإيطاليون بتغيير القيادات السياسية، مما حدا برئيس الوزراء الروسي نيكيتا خروشوف للقاء رجال الأعمال بدلا من التقاء رجال الدولة أو السياسيين، وحين سؤل عن ذلك قال: “أريد أن ألتقي بهؤلاء لأنهم الباقون في السلطة، أما السياسيون فلا بقاء لهم.”
وكان من المبتلين بداء السياسة من بني طليان رجل يُدعى جيوفاني جيوليتي، وهو رجل أصابته سهام السلطة مرات، فتولى رئاسة وزراء إيطاليا خمس فترات غير متعاقبة بين عامي 1892 و 1921. بيد أنه عهد الرجل كان مليئا بالعثرات السياسية والتوترات الشعبية مما انعكس على قسماته ونبرات صوته، وهو ما استشعره أحد الصحفيين اللامعين خلال لقاء له معه، فبادره بسؤال محرج: “هل تعتبر أن إدارة شئون بلد كإيطاليا أمر صعب؟” فرد جيوفاني: “إطلاقا، لكنه بلا فائدة.”
لماذا يتقاتل المتقاتلون على قيادة بلد تكاد تغوص في مستنقع المشكلات الداخلية وتتلاشى من تضاريس الخرائط كإيطاليا؟ ولماذا يتداعى المتبارون على المناصب السياسية إلى ميادين وطن آيل للسقوط في بئر الخرائط؟ لماذا يتشبث السياسيون في لجة الخلاف بمقابض سفينة يدركون أنها لا محالة غارقة، رغم أنها لا تحمل فوق متنها قوارب مطاطية أو ستر نجاة أو أمل قريب؟ فكل من في قعر السفينة من مواطنين “أوفياء” ينزعون ألواحها ويخلعون دُسُرها في شوفينية مقيتة، ويحسبون أنهم مهتدون. وكل فريق يضرب بعصا من فولاذ أطراف أخيه الذي يبغي الفساد في الأرض لأن “الله لا يحب الفساد”.
ما الذي يغري جيوفاني بقيادة وطن لم يعد من حكمه فائدة بعد أن سقطت فيه قلاع العدل ودُمرت مشاعر أبنائه النبيلة في أسوأ كارثة وطنية عرفتها الخرائط؟ ما الذي يغري جيوفاني بمنصب شرفي يهان فيه كل يوم ألف مرة ومرة من أناس لا يعرفون عنه إلا وجهه الممتلئ وكرشه المترهل؟ صحيح أن الرجل كان يسعى إلى تغيير خارطة الاقتصاد وإلى إخراج البلاد من دائرة الفوضى، لكنه لم يبذل جهدا يُذكر في إصلاح ذات البين أو في محاولة تقريب الرؤى بين قادة اليمين المتصلب وقادة اليسار المتعنت، لهذا لم تتقدم جرافة البلاد قدما إلا لتزيل القيم النبيلة التي توافق عليها الإيطاليون البسطاء من عيش وحرية وكرامة من خارطة التآلف. ورغم أن الرجل كان دائم الاتهام للنخبة بتضليل الشعب (الذي كان يمثله) إلا أنه لم يقدم برنامجا يُقنع المواطن البسيط برجاحة عقله كما اقتنع ذات انتخابات بوطنيته.
في إيطاليا، التقى خروشوف برجال الأعمال لأنهم الباقون قبل رحيل الساسة وبعده. فليذهب ساسة إيطاليا إلى الجحيم طالما بقيت في البلاد مصالح يمكن أن تديرها رؤوس الأموال الموجهة والمصالح المشتركة. فأصحاب رؤوس الأموال يتكلمون اللغة نفسها، وأما السياسيون، فلسانهم أعجمي وحروفهم ماكرة. فليأت خروشوف على رأس وفد اقتصادي كبير ليعتصر ما تبقى من رأسمال إيطاليا ويستنزف مواردها بدلا من الجلوس على طاولة الساسة التي لا يخرج منها المؤتمرون إلا بمزيد من الشك والصداع والخلاف.
كان بقاء جيوفاني بلا فائدة، لأنه لا يجيد لغة المصالح المشتركة والتعايش والحوار. صحيح أن صناديق الاقتراع قد عادت به إلى كرسي رئاسة الوزراء مرة بعد مرة، إلا أنه كان يخفق في كل مرة كما لم يخفق من قبل، لأن الرجل لم يكن صاحب رؤية ولم يكن يرى في حكم بلاده بأسا لكنه كان يراه حكمها عبثا. لكن يبقى السؤال: ما مدى أخلاقية بقاء من يرى بقاءه فوق كرسي الحكم بلا فائدة؟ وإذا كانت ثلاثة عقود من الفشل لم تقنعه بالرحيل، فمتى يرحل؟
الكاتب :
عبد الرازق أحمد الشاعر