كويت نيوز :
حين وجدت ألمانيا نفسها على حافة إنهيار، أرسلت قائد جندها على رأس فيلق من المفاوضين للجنرال الفرنسي فرديناند فوش للمطالبة بهدنة عجز يلتقط فيها المتحاربون خوذهم من ساحة ميدان التحمت فيه عشرات الأعلام وسقطت فيه عشرات البيارق. عندها، مد فوش أطراف أصابعه ليلتقط ورقة من فوق طاولة المفاوضات ويمررها لغريمه الألماني ذي الأنف المكسور. لكن الرجل كاد أن يخر صَعِقا حين فض المطوية الفرنسية وقرأ شروطها المهينة، وصرخ في وجه فوش قائلا: “يبدو أن هناك خطأ ما، إذ لا يمكن أن يفرض شعب متحضر على شعب حر شروطا كهذه.” عندها، تبسم فوش ضاحكا من قوله وبرم طرف شاربه بين أنامله الغليظة ليقول: “سيدي، هذه ليست شروطنا. إنما هي شروط قائد ألماني فذ فرضها على أهالي مدينة ليل الفرنسية يوم اقتحمها على حين عجز من أهلها.”
قهر بقهر إذن، ومذلة بمذلة، وعلى طغاة الحروب تدور الدوائر. ولو علم الجنرال الألماني المغرور بعدته وعتاده أنه سيعرض بسفهه كبار جنرالات جيشه للذلة والصغار، ويفرض إتاوة حرب غير عادلة على خزينة بلاده الخاوية على رفوفها بعد توقيع مذل على شروط استسلام مخزية، لما استبد بمدينة قاومت قدر ما تستطيع عن حدودها غير المحصنة حتى خارت قواها. لم يكن سقوط ليل نهاية حرب ولا خاتمة صراع إذن، لكن ذوي الأكتاف المقددة لا يرون أبعد من النجوم المرصوصة على جانبي أقفيتهم المتخشبة.
ولو علم الجنرال فوش أن مذلة الجنرالات الألمان عند نهاية الطاولة لا يزيد أنواط نصره، بل يمهد لانتفاضة ألمانية قادمة وحرب عالمية ثانية، لما أسرف في انتقام مشروع من قادة جيش لم يعد لهم في عرف الحروب حول ولا قوة. لكن غرور القوة يُطغي ويُعشي الأبصار والبصائر ويلقي في قلوب المنتصرين زهوا مؤقتا ليس له ما بعده.
الجهلاء فقط يرون انتصاراتهم الصغيرة في حروب كبيرة فتوحا وغنائم، ويعتبرون الوقوف فوق الأشلاء والبقايا نهاية تاريخ أو خاتمة صراع. ولو أنهم فتشوا في ذاكرة التاريخ المؤقتة أو الدائمة، لاكتشفوا أن الوقوف عند حواف المدن فوق خيول مطهمة والتلويح بأعلام ملونة لا يعني إمكانية البقاء هناك طويلا. فالحرب كر وفر وخداع وحيل. والعاقل من لا يبالغ في إظهار البهجة بسقوط خصم قادر على النهوض وإن كان مصابا. فالإصابة عجز مؤقت عن الفعل وتسويف لمعركة كانت على وشك الاحتدام.
والقادة الشرفاء لا يفرضون شروطا مهينة على شعوب قاتلت بشرف ودافعت باستبسال قبل أن تسقط فوق أسلاكها الشائكة وقضاياها المصيرية. الشرف أن تقاتل حتى تنتصر، ثم تضع سلاحك جانبا لتحمل الجرحى إلى أقرب مشفى وتسهر على جراحهم حتى تبرأ وإن قاتلوا ذات يوم ضدك ورفعوا أسلحتهم عليك. والشهامة أن تضع شروط صلح قد تضطرك الظروف لوضع بصمة خزي عليها حين تسقط رايتك ويتقهقر جندك يوم هزيمة. والرجولة أن تحمي رجالك من عدوى الكراهية ووباء الفساد حتى لا تسقط سريعا من فوق صهوة نصرك وتطأك حوافر خيول مغيرة.
لم تكن معاهدة فرساي أول شروط المذلة التي يوقع عليها المهزومون إثر معارك التاريخ المؤقتة، ولن تكون شروطها المجحفة آخر حدود التبجح للملوحين ببيارقهم الملونة وسط الميادين الواسعة. لكن بنود فرساي لم تحم يوما جماجم من صاغوها من السقوط في أتون المعارك اللاحقة، ولم تُلزم الظهور الألمانية التي وقعت ذات هزيمة بالانحناء المهين إلى ما لا نهاية. مليئة كتب التاريخ بالانتصارات والهزائم، وأبدا لم يعرف التاريخ قائدا لم يُهزم، وقصور طاغية لم تهدم. الأغبياء فقط يظنون أنهم قادرون على وضع بوابات فاصلة على حدود التاريخ، وأنهم قادرون على لجم جموحه وإيقاف عجلته عند حدود انتصاراتهم الصغيرة.
فليذكر الذين يبالغون اليوم في صياغة فرساي المصرية الجديدة أنهم أُجبروا ذات سقوط على التوقيع بأطراف أصابعهم على بنود مهانة ظن مسطروها أنهم في الملك خالدون وأنهم على صدر البلاد جاثمون حتى أتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم الخزي من حيث لا يحتسبون. وليت الجالسين على طاولة المفاوضات من جانبي الصراع يتذكرون شعبا لا يجد طاولة طعام ولا طاولة في مدرسة ولا طاولة آمنة تحت شجيرة ظليلة في هجير بلاد تزداد تصحرا يوما بعد يوم.
الكاتب :
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات