كويت نيوز :
استطاع القاضي جوناثان بيرنز أن ينتزع صيحة استهجان من صدور عدد لا بأس به من البريطانيين بعد أن منح تاجر المخدرات العراقي هشام محمد حق الإقامة في بريطانيا بعد قضاء مدة العقوبة في أحد سجون بريطانيا. وقد استند القاضي في حكمه على بعض القرائن الإنسانية التي تخالف القانون البريطاني الذي يقضي بترحيل المقيمين الذين يرتكبون جرائم خطيرة تكدر الأمن العام أو تضر بالمجتمع إلى بلادهم. أما عن حيثيات الحكم فهي في غاية الطرافة لا سيما في عالمنا الثالث الذي ينظر إلى حقوق الإنسان شزرا ويتعامل مع أصحاب السوابق كما يتعامل مع النجاسات.
في بريطانيا، خالف جوناثان بيرنز مواد القانون البريطاني ليحمي تاجر مخدرات لا يحمل أوراقا ثبوتية ولا تاريخا مشرفا ولا ينتمي إلى التراب البريطاني، رغم أن الرجل لم يتلق رشوة من تحت الطاولة ولا تهديدا بالقتل ولا مساومة على شريط فيديو. كل ما في الأمر أن العراقي هشام استطاع أن يقنع هيئة المحكمة الموقرة بأن عودته إلى العراق بجسد مغطى بالوشم وامرأة نصف عارية يشكل خطرا على حياته، حيث أنه يعيش في مجتمع إسلامي محافظ يرجم الواشمين حتى الموت.
في بريطانيا، ثار الرأي العام على قرار محكمة النقض، واعتبروا أن إلغاء حكم الإبعاد يمثل تهديدا للمجتمع البريطاني الذي سيتحول حتما من مجتمع قانون إلى مجتمع عواطف بحجة حماية حقوق الإنسان. صحيح أن الرجل لديه طفلان، لكنه لا يقيم معهما، ولا يعرف شيئا عن زوجته الأيرلندية ولا زوجة ليفربول بعد أن هجرهما دون سابق إنذار، وهو ما يعد دليلا على استهتار الرجل وتصرفه بشكل غير مسئول. ثم إن علاقته بالإنجليزية ساي هاروود لا تتعدى كونها مجرد وشم على صدره وذراعيه، ولم تتحول بعد إلى علاقة شبه أسرية .
لكن القاضي الطيب برر حكمه الغريب بأن الحكم بإبعاد هشام سيؤذي مشاعر هاروود وعشيقها وهو ما يعد انتهاكا للمادة الثامنة من حقوق الأزواج. كما أن الرجل قد نال من العقاب ما يكفي، ومن حقه أن يعود إلى النهار بعد ستة أعوام من غياهب السجن. وبما أن هشام قد أصبح غربيا كما ينبغي، فمن العار أن يعود إلى بلاد الرجم والعزلة والقهر. صحيح أن حكم جوناثان بيرنز قد يشجع الخارجين على القانون من أمثال البوليفي كاميلو سوريا أفيلا الذي دافع عن بقائه في انجلترا بحجة أنه متزوج من صديقه الشاب، وأنهما قد اشتريا قطة تدفئ فراشهما الذكوري، لكن هذا لا يعني التخلي عن روح القانون لأجل نصوصه.
في بريطانيا ينقسم الناس بين مدافع عن الإنسان ومدافع عن القانون، ولكل فرقة مبرراتها. فمن حق العراقي أن يبقى في بريطانيا وإن انتهك حرمة البلاد وعاث فيها فسادا، فهو إنسان على أية حال. صحيح أنه لا يحمل جوازا بريطانيا يسوغ له البقاء، لكنه يحمل وشما لحصان البحر وأحرفا أولى من اسم فتاة إنجليزية تهيم به. ولأننا نختار وشمنا ولا نختار مساقط رؤوسنا، فمن حق المستغرب الفار من الرجم أن يحمل إقامة غربية وهوية إنجليزية.
أما الذين ينظرون إلى بشرته الداكنه وسجله الأسود وبصمات إجرامه، فلا يرونه أهلا للبقاء في مجتمع أبيض نقي كالبللور لا تخرج الجريمة من معطفه ولا من بين فخذيه لا سيما وأنه دخل بشكل غير شرعي إلى البلاد عام 2000. ومن حق دافعي الضرائب أن يحموا بلادهم من الجرائم الملونة العابرة للقارات. ليس في إبعاد الرجل إذن ثمة انتهاك لحقوق الإنسان، لأن هشام هو المنتهك الحقيقي لحقوق بلاد آوته من تشرد وأمنته من خوف، هكذا يقول المطالبون بإبعاده.
لبريطانيا سجالاتها، ولقضاتها الحق في الخروج على القانون حماية لحقوق الإنسان مهما كان لون جلده وطرافة لكنته. وللإنسان في بريطانيا حق الإقامة حتى وإن دخلها تهريبا وأفسد فيها وأهلك الحرث والنسل. ولبلادنا قضاياها، وقضاتها، ومبعدوها. لكن حقوق الإنسان تظل غائبة في بلادنا ومحاكمنا وشوارعنا ومنتدياتنا. في بلادنا التي غصت بالشعارات والهتافات ودقات الأقدام، تجد قليلا من الناس من يدافع عن الإنسانية إلا لانتماء، وقليلا من القضاة من يخالف القانون إلا لحاجة في نفسه يقضيها. وفي بلادنا البعيدة تماما عن نص القانون، وروح القانون، لا يحق لنا الإقامة وإن عشنا كجرذان الحقل أو اتخذنا من القبور بيوتا. هنيئا لهشام لأنه حوكم هناك، ولأنه نال حق الإقامة هناك، ولأن قاضيه كان جوناثان بيرنز.
الكاتب :
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات