كويت نيوز : عام 2003، قام الفنان البرازيلي روبرتو فييرا بافتتاح معرض لأكياس اللكم فوق رصيف محطة سانتا سييلا بساو باولو. فقد كان الرجل يعتقد أن المسافرين يحتاجون إلى التنفيس عن لكماتهم بطريقة ما عند محطات لا تكترث لمكوثهم فوق بلاطها البارد. ولا بأس أن ينزل الركاب الذين يحشرون في عربات القطار كقطع التونا المعلبة ليركلوا أكياس الرمل أو يصفعوها أو يضربوها بقبضات ملؤها الغضب، ثم يعودوا إلى توابيتهم المتحركة ليستنشقوا عرق الأجساد وأنفاس إخوانهم من البائسين.
ولاقت فكرة الرجل رواجا غير متوقع من البرازيليين، فقد كان الناس ينتظرون محطة سانتا سييلا كمن تنتظر مولودها الأول، وقبل أن تحتك عجلات القطار بقضبان المحطة، يجهز الناس قبضاتهم ويلوحون بها فيما أتيح لهم من فضاء، وكأنهم أكياس غضب على موعد مع أكياس الرمال فوق محطة زمنية عصيبة. كم كان المشهد عبثيا فوق بلاط ساو باولو البارد والركاب يهرعون إلى أكياس الرمل كمن يهرع إلى حبيب ينتظر! فوق أعتابها المدينة الباردة، كان البرازيليون يقفون في طوابير تفوق طوابير الواقفين أمام طابعة التذاكر عددا وتوقا وغضبا.
وطالب البرازيليون حكومتهم بالإكثار من أكياس اللكم حتى يتسنى لهم التنفيس عن غضبهم عند أفران الخبز ومحطات الوقود وأمام المستشفيات والمصالح الحكومية والمطارات ومواقف السيارات. كان البرازيليون غاضبون من البطالة ومن سوء الخدمات في كافة المصالح ومن الروتين الحكومي ومن الحكومة والمعارضة. كان البرازيليون يتنقلون في شوارع البلاد من غضب إلى غضب، وكأنهم قد أتوا إلى هذا العالم ليغضبوا.
ولكن إذا كان هذا حال البرازيليين، فكيف يكون حالنا؟ وإذا كان من حق البرازيليين أن يغضبوا وأن يطالبوا بأكياس لكم عند كل محطة وناصية، فكيف يكون حال المصريين اليوم وقد وجدوا أنفسهم فجأة في مكب ثورة يتسولون الرغيف والسولار والأمل؟ كيف يكون حال المصريين اليوم أيها الفييرا النبيل وقد شحنتهم الجماعات والأحزاب والفضائيات فأصبحوا كالقنابل الموقوتة فوق أرصفة بلاد لا تراهم إلا عبئا على بلاطها البارد؟ وأي أكياس رمل تحتمل شحنات الغضب المتصاعدة من مناخرهم وقبضاتهم المتشنجة؟
وفي ظل غياب مريب للحكومة ورجال الفكر ورجال الدين والعسكر والشرطة والرمل، كيف يفجر الشباب في بلادنا عن مساقات غضبهم أيها البرازيلي المبدع؟ ففي بلادنا لا يجد المرء من يتحدث إليه إلا برامج الشحن، ولا يجد أمامه بابا إلا أبواب نشطاء العنف الذين يراهنون على الغضب بعد أن فشلوا ذريعا في فتح أي أفق؟ وأين يفرج الشباب عن غضبهم في بلاد جعلت المنابر وساحات المساجد محاريب للشحن والصخب؟ وكيف يجد المرء سلامه النفسي في بلاد تحاصر المصلين وتقتل المرء بالهوية؟
نحتاج إلى التعبير عن غضبنا أيها الفييرا النبيل بركل أكياس الرمل وسحلها بدلا من قتل إخوة لنا في الهم والغضب. نحتاج إلى حكومة رشيدة تمنح كل مواطن في بلادنا كيس رمل على بطاقته التموينية قبل اسطوانة الغاز. ونحتاج إلى علماء دين يعيدون للمساجد دورها الروحي في ترشيد الغضب، وإلى نخبة سياسية تكترث للدماء أكثر مما تكترث للسولار. نحتاج إلى ميثاق كرامة يحفظ للمصريبن بكل انتماءاتهم حقهم في المشي الآمن فوق أرصفة البلاد الباردة. ونحتاج أن نضع ميثاقا أخلاقيا للحوار الوطني قبل أن نضرب موعدا له. نحتاج اليوم أيها الروبرتو إلى أكثر من أكياس الرمل لننفس عن غضبنا الموروث وإحباطنا المشروع ودمائنا المراقة فوق محطات التاريخ الباردة.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
الوسوماديب كتاب كويت مصري نيوز
شاهد أيضاً
وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنّنا نعْلَمُ أَنَّكَ تَكْذِبُ
عند السماع لتصريح وزير خارجية امريكا الذي قال بكل فضاضة ان الخارجية الأمريكية لم نر …