كويت نيوز: حدثَ ما يلي في يوم مشمسٍ منذ ثمانٍ وخمسين عاماً مضت. أقلعت خمس طائرات تابعة لسلاح البحرية من قاعدتها في فلوريدا، ضمن مهمةٍ تدريبية اعتيادية عُرفت باسم الرحلة تسعة عشر. لم يُرَ أيّ من تلك الطائرات أو طاقمها بعد تلك التاريخ مطلقاً، وهكذا وُلدت الأسطورة.
يتكوّن مثلّث برمودا من المنطقة المحصورة ما بين ميامي وبرمودا وبورتو ريكو. لا يتابع أحد أيّ إحصائيات، ولكن اختفى عدد كبير من السفن والطائرات من دون أيّ أثرٍ ضمن هذا المثلّث التخيّلي في القرن الماضي.
لُوحِظت مميزات استثنائية لتلك المنطقة في الماضي. كتبَ كريستوفر كولومبوس Christopher Columbus في سجلاته عن دلالات غريبة للبوصلة في تلك المنطقة، ولكن لم تنل تلك المنطقةُ اسمها حتى شهر آب\ أغسطس من عام 1964، عندما ابتكر فينسنت جاديس Vincent Gaddis المصطلح “مثلّث برمودا” في قصة لغلاف مجلة أرجوسيArgosy كانت تتحدث عن اختفاء الرحلة تسعة عشر. وقد أثار ذاك المقال في الواقع نشاطات في خلق الأساطير داخل المنازل. قُدّمت العديد من النظريات الغريبة جدّاً لشرح ما حصل للمسافرين المفقودين.
لقد عُزي أمرُ الاختفاء إلى مكائد لوحوش بحريّة أو لحبّار عملاق أو لمخلوقات من خارجِ الأرض. كما اقتُرحت بدائل أخرى مسؤولة عن ذلك الفعل، كاختطافات من قِبل فضائيين، أو وجود بُعد ثالث غامض خلقَته كائنات لا نعلم عنها أي شيء، أو وجود غازات في المحيط –أي أنّ المحيط يطرح كميات كبيرة من غاز الميتان العالق.
ولكن كما يقول العديد، الحقيقة أكثر واقعية بكثير. حُجّتهم أنه غدر من أُمّنا الطبيعة، أو لربّما خطأ إنساني، أو لعله سوء الصناعة أو التصميم، وبإضافة سوء الحظ إلى القائمة، قد يُعطينا تعليلاً لتلك الاختفاءات العديدة.
لطالما كانت هذه المنطقة عقدة مواصلاتٍ مزدحمةٍ منذ الأيام الأولى للاستكشافات الأوروبية. حسب ما أفادَ به جون رايليJohn Reilly المؤرّخ في المنشأة الأمريكية للتاريخ الملاحي: “قولنا أنّ عدة سفن وطائرات قد اختفت هناك، كأننا نقول أن هناك عدداً كبيراً جدّاً من حوادث السيارات على الطريق الرئيسية لنيوجيرسي – مفاجأة، مفاجأة”.
ويكتب الملازمُ أ. ل. راسل A. L. Russell في الرد الرسمي لحرس السواحلِ الأمريكي بشأن الاستفسارات عن مثلث برمودا: “إنّ قوى الطبيعة بأجمعها، إلى جانب تقلّبات البشر، تفوق قصص الخيالِ العلمي مرّات عديدة كل سنة”.
اِختفاء الرحلة 19
سترتبط أسطورة مثلّث برمودا للأبد بالقصة المشؤومة لتلك الرحلة في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر من عام 1945.
انطلقت الرحلة 19 من محطة الإقلاع البحرية الأمريكية في لودرديل في ولاية فلوريدا، حيث أقلعت خمس قاذفات من نوع ت.ب.م أفينجر (TBM Avenger) تحمل على متنها أربعة عشر رجلاً، وذلك في تمام الساعة الثانية وعشر دقائق من مساء ذاك اليوم، في مهمة تدريبية ملاحية اعتيادية بقيادةِ الملازم والمدرّب تشارلز تيلور Charles Taylor. كانت المهمّة المفترضة هي أن تحلّق الطائرات ضمن مسارٍ يتبع أضلاعَ مثلّثٍ افتراضيٍّ مع بعض التدريب على إلقاء القنابل فوق حيد هين أند تشيكينز Hen and Chickens في فلوريدا.
ولكن، في عصرٍ لم يكن نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) قد اختُرع بعد، تاهَ تيلور بعد زمنٍ قصيرٍ من قيامهم بالقصف. واضطرّ الطيارون خلال طيرانهم فوق الماء في عام 1945، إلى الاعتماد على البوصلات وعلى الزمن الذي يحلّقون به في اتجاهٍ معيّنٍ بالإضافة إلى سرعة التحليق.
لم تكن البوصلتان على متن طائرة تيلور تعملان بشكلٍ صحيح. وبالفعل، تشير سجلات الاتصالات مع طاقم الرحلة إلى أنّه لم يكن يرتدي ساعة، ولا توجد أيّ علامات مميّزة وسط المحيط.
ظلّت الطائرات تحلق في اتجاهات مختلفة بينما كان النهار المشرق ينقلب إلى ظلمةٍ تملؤها مياه هائجة في العاصفة. وقد سُمع تيلور وهو يُدبِّرُ خطةً، حيث كان من المخطط أن تهبط الطائرات هبوطاً اضطرارياً على الماءِ حالما ينزل مستوى الوقود في أوّلها إلى ما دون عشرة جالونات.
عُرفت طائرة أفينجر بقوة بنيانها بحيث أطلق عليها الطيّارون اسم الطيور الحديدية (Iron Birds) أو منتج جرومان الحديديGrumman ironworks وفقاً لمارك إفانز Mark Evans، المؤرّخ في قسم تاريخ الطيران البحري في مركز التاريخ الملاحي.
وقال: “لقد بُنيت لتشبه الدبّابات. لطالما عادت من المعاركِ مرّات ومرّات، وأُصيبتْ مراراً وتكراراً، لكنّها لا تزالُ تعمل. لقد أحبّها الطيّارون.” كانت ثقيلة أيضاً، حيث أنَّ وزنَها يفوقُ عشرة آلاف باوند (4535 كغ) وهي فارغة. وعندما تهبط طائرة أفينجر هبوطاً اضطرارياً فوق الماء، تنقضُّ بقوّة وبسرعة. لذلك، كانت فرصُ نجاة أحدهم من الهبوط في البحارِ الهائجةِ ضعيفةً للغاية. أمّا بالنسبة لفرصِ النجاةِ من المياه الباردة في الليل، فكانت منعدمة. كما أنّ احتمالَ وصول الحطامِ إلى القاعِ بسرعةٍ كانَ كبيراً.
لم يُعثر على جثث أو على حطام على الرغم من المسح الشامل للأرض والبحر. وما زاد الطين بَلّة، هو أنّ إحدى طائرات الإنقاذ اختفت أيضاً بكامل طاقمها المؤلّف من ثلاثة عشر رجلاً. أمّا بشأن طائرتهم الملّاحة من طراز “PBM“، والتي كانت تحمل لقب صهريج الوقود الطائر (flying gas tank)، فأضعف شرارة أو مجرّد إشعال عود ثقاب كان كافياً ليسبب انفجارها. زَوّدت إحدى السفن في تلك المنطقة المقرَّ بمعلومات أفادت عن رؤيتهم لكرةٍ نارية ضخمة تعبر بقعة من النفط في الوقت والمكان ذاته التي كانت فيه الطائرة. أوقف الجيش إنتاج تلك الطائرة عام 1949.
أما آخر تقرير للبحريّة، فقد عزا اختفاء الرحلة 19 إلى خطأٍ من الطيّار. لكن اعترضت عائلةُ تايلور على ذلك، وبعد عدة جلسات مراجعة، تغيّرَ التقرير إلى “السبب مجهول.”
مقبرة الأطلسي
لدى منطقة مثلّث برمودا سمات غير عادية، فهي أحد المكانين على سطحِ الأرض حيث يتطابق الشمال الجغرافي والشمال المغناطيسي –يُلقّب المكان الثاني ببحرِ الشيطانِ قرب الشواطئ الشرقية لليابان، إذ لديه سمعة غامضة بالمثل- ما يجعل دلالات البوصلةِ مشبوهة. تلك المنطقة أيضاً موطنٌ لأكثر الأخاديد البحرية عمقاً في العالم، فيمكن أن يستقر حطامٌ في قبر مائي على عمق أميال تحت سطح المحيط. بالفعل، يبلغ عمق القاع 19 ألف (5791 متر) في معظم مساحة مثلّث برمودا. أمّا بالقرب من القمّة الجنوبية، فيصل أخدود بورتو ريكو في أحد نقاطه إلى عمق 27500 قدم (8229 متر) تحت سطح البحر.
تتناثر بقع المياه الضحلة وسلاسل الصخور السطحية على طول الرصيف القارّي. وكما ذكر خفرُ السواحل، تُولِّد التيّارات القوية فوق سلاسل الصخور تلك، أخطاراً على الملاحة على الدوام. ثمّ هناك مسألة الطقس.
بحسب قول ديف فيت Dave Feit، وهو المسؤول عن فرع التوقعات البحرية في إدارة الأرصاد الجوية والمحيطية التابعة لمركز التنبؤات البحرية: “إن أكبر المشاكل في تلك المنطقة هي الأعاصير، ولكنها ليست في البيئة المناسبة لتولّدها”.
على أي حال، وكما وضح ديف، يتحرك تيار الخليج على طول الحافة الغربية للمثلّث، وقد يشكّل هذا عاملاً حيث يكوّن نهراً داخل المحيط بعرض يبلغ حوالي 40 إلى 50 ميلاً (أي بعرضِ 64-80 كم)، ويدور في القسم الشمالي من المحيط الأطلسي. يمكن لهذه المياه الدافئة التي تسير بسرعة عقدتين إلى أربعة عقد، أن تخلق أنماط طقس تنتقل عبرها. ووفقاً لفيت: “إذا توفرت الشروط الجوية، يمكن أن نحصل على أمواج عالية بشكل غير متوقع”. فإذا كان ارتفاع الأمواج ثمانية أقدام خارج تيار الخليج، من الممكن أن يصل ارتفاعها في الداخل إلى ضعفي أو حتى ثلاثة أضعاف ذلك الارتفاع. يتعرّف الملّاحون أحياناً على تيّار الخليج من خلال الغيوم والعواصف الرعدية فوقه.”
يلاحظ خفرُ السواحلِ أيضاً أنّ العواصف الكاريبية الأطلسية المفاجئة قد تُنتج أعمدة مائيّة إعصارية، وغالباً ما تتسبّب في كوارث للطيارين والملاحين. ومع ذلك، إن كان لك الخيار ما بين فكرة مجسات حبارٍ عملاقٍ مرعبٍ يصارع سفينةً بريئةً ويجرها لقعر البحر أو اختطاف فضائي، مقابل خطأٍ بشري أو هندسة سيّئة أو مزاجية أُمّنا الطبيعة، من يستطيعُ أن يقاوم أسطورة مثلّث برمودا؟